عایش الإمام الصادق ( علیه السلام ) الحکَّام الأمویین ، من عبد الملک بن مروان ، حتى سقوط الحکم الأموی سنة ( 132 هـ ) . ثم آلَتْ الخلافة بعد ذلک إلى بنی العباس ، فعاصر من خلفائهم أبا العباس السفاح ، وشطراً من خلافة أبی جعفر المنصور ، بحوالی عشر سنوات . وقد شاهد بنفسه خلال مُدَّة إمامته مِحنة آل البیت ( علیهم السلام ) ، وآلام الأمة ، وشکواها ، إلاَّ أنه لم یکن یملک القدرة على التحرک . لذلک نجد الإمام ( علیه السلام ) انصرف عن الصراع السیاسی المکشوف إلى بناء المقاومة بناءً علمیاً ، وفکریاً ، وسلوکیاً ، یحمل روح الثورة .
وبهذه الطریقة راحَ الإمام ( علیه السلام ) یربِّی العلماء ، وجماهیر الأمة ، على مقاطعة الحُکَّام الظلمة ، ومقاومتهم ، عن طریق نشر الوعی العقائدی ، والسیاسی ، والتفَقُّه فی أحکام الشریعة . ونورد الآن بعض ما کان من الإمام الصادق ( علیه السلام ) مع أبی جعفر المنصور ، وَوُلاتِه ، من المواقف التی یُعلِنُ ( علیه السلام ) فیها بالحقِّ ، غیر مکترثٍ بما له من سطوة ، ولولاته من قسوة .
- بعض مواقفه ( علیه السلام ) من المنصور :
الموقف الأول :
سأل المنصورُ الإمامَ ( علیه السلام ) یوماً عن الذُّباب ، وهو یَتَطایح على وجهه ، حتَّى أضجره ، قائلاً : یا أبا عبد الله ، لِم خلق اللهُ الذباب ؟، فقال ( علیه السلام ) : ( لِیُذلَّ به الجبابرة ) . فسَکَت المنصور علماً منه أنه لو ردَّ علیه لوخزه بما هو أمضُّ جرحاً ، وأنفذ طعناً .
الموقف الثانی :
کتب المنصور إلى الإمام ( علیه السلام ) فی إحدى المرَّات : لِم لا تغشانا کما تغشانا الناس ؟، فأجابه ( علیه السلام ) : ( لَیسَ لنا ما نخافک من أجله ، ولا عندک من أمر الآخرة ما نرجوک له ، ولا أنت فی نعمة فَنُهنِّیک ، ولا تَراها نقمة فَنُعزِّیک ، فما نصنع عندک ) .
فکتب المنصور إلیه ( علیه السلام ) : تصحبنا لتنصحنا . فأجابه ( علیه السلام ) : ( مَنْ أرادَ الدُّنیا لا ینصحک ، ومَنْ أرادَ الآخِرَة لا یَصحبُک ) . فقال المنصور : والله لقد مَیَّز عندی منازل من یرید الدنیا مِمَّن یرید الآخرة ، وإنه ممَّن یرید الآخرة لا الدنیا .
الموقف الثالث :
استقدم المنصور الإمام الصادق ( علیه السلام ) مرَّة ، وهو - المنصور - غضبان علیه . فلما دخل الإمام ( علیه السلام ) على المنصور قال المنصور له : زعم أوغاد الحِجاز ورعاع الناس أنک حَبْر الدهر ، وناموسه ، وحُجَّة المعبود وترجمانه ، وعَیبةَ عِلمه ، ومیزان قسطه ، ومصباحه الذی یقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضیاء النور . وأن الله لا یقبل من عامل جهل حدَّک فی الدنیا عملاً ، ولا یرفع له یوم القیامة وزناً ، فنسبوک إِلى غیر حدِّک . وقالوا فیک ما لیس فیک ، فقل ، فإنَّ أوَّل من قال الحقَّ جدُّک ، وأوَّل من صدَّقه علیه أبوک ، وأنت حریٌّ أن تقتصَّ آثارهما ، وتسلک سبیلهما .
فقال الإمام ( علیه السلام ) : ( أنا فرع من فروع الزَّیتُونة ، وقِندیل من قنادیل بیت النبوة ، وأدیب السفرة ، وربیب الکرام البررة ، ومِصباح من مصبایح المِشکاة ، التی فیها نور النور ، وصفوة الکلمة الباقیة فی عقب المصطفین إلى یوم الحشر ) .
فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال : هذا قد حَالَنی على بحر مَوَّاج ، لا یُدرَک طرفه ، ولا یبلغ عمقه ، تُحارُ فیه العلماء ، ویغرقُ فیه السُبَحاء ، ویضیق بالسابح عرض الفضاء . هذا الشجى المعترض فی حلوق الخلفاء ، الذی لا یجوز نفیه ، ولا یحلُّ قتله ، ولولا ما تجمعنی وإِیَّاه شجرة طاب أصلها ، وبسق فرعها ، وعَذِب ثمرها ، وبُورِکت فی الذَر ، وقُدِّست فی الزُبُر ، لکان مِنِّی ما لا یُحمَد فی العواقب ، لِمَا یبلغنی عنه من شِدَّة عَیبهِ لنا ، وسوء القول فینا .
فقال ( علیه السلام ) : ( لا تُقبلُ فی ذی رَحمک ، وأهل الرعایة من أهل بیتک ، قولُ من حرَّم الله علیه الجنة ، وجعل مأواه النار ، فإن النمَّام شاهدُ زور ، وشریک إبلیس فی الإغراء بین الناس) . فقد قال الله تعالى : ( یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا أَن تُصِیبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ ) ، (الحجرات 6) . و نحن لک أنصار وأعوان ، ولملکک دعائم وأرکان ، ما أمرت بالمعروف والإحسان ، وأمضیت فی الرعیَّة أحکام القرآن ، وأرغمت بطاعَتِک لله أنف الشیطان ، وإِن کان یجب علیک فی سِعَة فهمک ، وکثرة علمک ، ومعرفتک بآداب الله ، أن تَصِلَ من قطعک ، وتعطی من حَرَمک ، وتَعفو عَمَّن ظلمک ) .
فقال المنصور : قد صَفَحتُ عنک لقدرک ، وتجاوزتُ عنک لِصِدقک ، فَحدثنی عن نفسک بحدیثٍ أتَّعِظُ به ، ویکون لی زاجر صِدقٍ عن الموبقات . فقال ( علیه السلام ) : ( علیک بالحِلم ، فإنَّه رُکن العلم ، واملک نفسک عند أسباب القدرة ، فإنک إِن تفعلْ ما تقدر علیه کُنتَ کَمَن شفى غیظاً ، أو تداوى حقداً ، أو یحبُّ أن یذکر بالصولة ، واعلم بأنَّک إن عاقبت مستحقّاً لم تکن غایة ما توصف به إِلا العدل ، والحال التی توجب الشکر ، أفضل من الحال التی توجب الصبر ) .
فقال المنصور : وعظتَ فأحسنتَ ، وقلتَ فأوجَزْت . نقول : إِن أمثال هذه المواقف تعطینا دروساً وافیه عمَّا کان علیه أهل ذلک العصر ، من سیاسة ، وعلم ، واعتقاد ، وغیرها ،
وهنا نستطیع أن نتعرَّف عِدَّة اُمور :
- الأمر الأول :
إِن المنصور یرید ألا یظهر الإمام الصادق ( علیه السلام ) بمظهر الإمامة ، فحاوَلَ أن یخدعه أمام الناس بتلک الکلمات اللیِّنة .
وهنا تعرف دَهَاء المنصور ، لأن العبَّاسیِّین إِنما تربَّعوا على العرش باسم الإمامة والخلافة ، فلو کان هناک إِمام آخر یَرى شَطر من الأمة أنه - الإمام الآخر - صاحب المنبر والتاج لا یتم لهم - للعباسیِّین - أمرٌ . ویرید المنصور ألا یعارضه أحدٌ فی سلطانه ، فکان یدافع عن عرشه بالشدَّة مرَّةً ، وباللِّین أخرى . فکان من سیاسته أن جَابَه الإمام ( علیه السلام ) أمام المَلأ بهذا القول ، وحسب أنَّ الإمام ( علیه السلام ) سوف یبطل ما یقوله الناس فیه ، وبه یحصل ما یرید ، وهو یعلم أنَّ الإمام ( علیه السلام ) لا یجابهه بالردِّ ، وذلک حذراً من سطوته .
- الأمر الثانی :
إنَّ الإمام ( علیه السلام ) إمامٌ بجعل إِلهی ، والإمامة فی أهل البیت ( علیهم السلام ) وفی الإمام الصادق ( علیه السلام ) لیست ولیدة عصر المنصور ، وإنما هی من عهد صاحب الرسالة ( صلى الله علیه وآله ) . فالإمام الصادق ( علیه السلام ) وقَع بین أمرین : إِن جارى ( علیه السلام ) المنصور فقد أبطل إِمامة إِلهیة ، وإِن عارضه ( علیه السلام ) لا یأمن من شرِّه . ومن ثَمَّ أجاب الإمامُ ( علیه السلام ) المنصورَ بکلماتٍ مُجمَلة ، لا تصرِّح بالإمامة ، ولا تبطل قول الناس فیه . ولذا قال المنصور : هذا قد حَالَنی على بَحرٍ مَوَّاج ، لا یُدرَکُ طرفُه .. .
- الأمر الثالث :
إن قولنا - نحن الشیعة - فی الإمام ( علیه السلام ) من ذلک الیوم على ما هو علیه الیوم ، لأن هذا ما تقتضیه أصول المذهب ، وتدلُّ علیه أخبار أهل البیت ( علیهم السلام ) وآثارهم .
- الأمر الرابع :
إِن سکوت الإمام الصادق ( علیه السلام ) ، وعدم إبطاله لأن یکون کما یقول الناس ، برهان على أن حقیقة الإمامة ، کما یحکیها المنصور عن الناس . ولو کانت حقیقتها غیر هذا لقال الإمام الصادق ( علیه السلام ) :( إِن هذا الرأی والقول باطل ، بل لوجب علیه إِعلام الناس بِبُطلانه ، ورَدْعهم عن هذا المُعتَقَد ).
- الأمر الخامس :
إِن القائل بإمامة الصادق ( علیه السلام ) خَلقٌ کثیر من الناس ، ممَّا جعل المنصور یفکِّر فیه ، ویخشى من اتِّساعه ، ومن عقباه ، فحاوَلَ أن یتذرَّع بالإمام الصادق ( علیه السلام ) لمکافحته .
- الأمر السادس :
إِن المرء بأصغریه ، فالإمام الصادق ( علیه السلام ) لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته ، لکان فی مثل کلامه ، ومثل موقفه ، هذا دلالة على ما له ( علیه السلام ) من مقام . أتراه ( علیه السلام ) کیف حَادَ عن جواب المنصور بما حَیَّره ، ومن دون أن یصرِّح بخلاف ما حکاه عن الشیعة ، ودون أن یصرِّح بصحَّة ما یرون ؟ . وکیف وعیت ذلک البیان منه عن نفسه ، ببلیغ من القول ، وجلیل من المعنى ، وکیف وعظَ ( علیه السلام ) المنصور بما یوافق شأن الملوک ، وما یتَّفق وابتلاءهم کثیراً ؟ .
وهذا بعض ما یمکن استنباطه من هذا الموقف ، وفهم حال الناس ذلک الیوم ، وکفى به عن سواه .
من مواقفه ( علیه السلام ) من وُلاة المنصور :
للإمام الصادق ( علیه السلام ) مواقف کثیرة مع وُلاة المنصور ، نذکر من تلک المواقف الموقف الآتی :
جاء إِلى المدینة والیاً من قبل المنصور ، رجل یقال له شَیبة بن عفال ، یقول عبد الله بن سلیمان التمیمی : فلما حضرت الجمعة صار شیبة إلى مسجد الرسول ( صلى الله علیه وآله ) ، فرقى المنبر ، وحمد الله ، وأثنى علیه ، ثم قال : أما بعد ، فإن علی بن أبی طالب شقَّ عصا المسلمین ، وحارب المؤمنین ، وأراد الأمر لنفسه ، ومنعه أهله . فحرَّمه الله علیه ، وأماته بغصَّته ، وهؤلاء وُلده یتبعون أثره فی الفساد ، وطلب الأمر بغیر استحقاق له ، فهم فی نواحی الأرض مقتولون ، وبالدماء مضرّجون .
فعظُم هذا الکلام منه على الناس ، ولم یجسر أحد منهم أن ینطق بحرف ، فقام إلیه رجل فقال : ونحمد الله ، ونُصلِّی على محمَّدٍ ( صلى الله علیه وآله ) خاتم النبیین ، وسید المرسلین ،وعلى رُسُل الله وأنبیائه ( علیهم السلام ) أجمعین . أمَّا ما قلت من خیر فنحن أهله ، وأمَّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبُک به أولى ، فاختبر یا من رکب غیر راحلته ، وأکَلَ غیر زاده ، اِرجع مأزوراً . ثم أقبل على الناس فقال : ألا أنبئکم بأخلى الناس میزاناً یوم القیامة ، وأبیَنَهم خسراناً ، من باع آخرته بدنیا غیره ، وهو هذا الفاسق .
فأسکت الناس ، وخرج الوالی من المسجد ولم ینطق بحرف ، فسألت عن الرجل ، فقیل لی : هذا جعفر ، بن محمد ، بن علی ، بن الحسین ، بن علی ، بن أبی طالب ( علیهم السلام ) .
نقول : هذا موقف من مواقفه ( علیه السلام ) من رجال المنصور ، دعاه إلى الشدَّة فیها الغضب للحق ، حین وجد أنَّ الکلام أولى من السکوت ، وإن أبدى فیها صفحته للسیف .